شرط أردوغان المؤلم للمصالحة مع السيسي
قبل قرابة سنة ساقتني الظروف إلى لقاء إجباري مع بروفيسور مصري مباركي غدا فيما بعد سيسي. كان البروفيسور يتصدر، ويقول بتكبر: "في النهاية هيبوس أردوغان جزمة السيسي"، ويعترف بأن الملك السعودي هو من سيجبره على فعل التبويس. شعرت بالأسى لطريقة تفكير من يجب أن يكون مثقفاً، فثقافة تبويس "الجزم" مع الأسف من المشتركات بين شبيحة الأسد وبلطجية السيسي. أولئك أيضاً يقولون بأن كل زعماء العالم سيقفون بالدور، وسيتدافعون من أجل أن يحظوا بقبلة من جزمة سيادته.
زيارة السيسي وأردوغان للسعودية ذكرتني بهذه القصة بعد قرابة عام. قبل الزيارة بأيام ارتفعت بورصة التوقعات السياسية، وضربت رقماً قياسياً غير مسبوق، وتم الحديث عن تبويس الشوارب بين السيسي وأردوغان وليس الجزم. يبدو أن سيادة رُبّان الانقلاب تنازل وتواضع في هذه القضية، لأن الرياح لم تجر كما اشتهى ربان الانقلاب... هل هو ربان الانقلاب فعلاً؟
هذا أمر آخر يحتاج إلى مناقشة. الرياح التي هبت بما لم يشتهه الربان هو التمدد الإيراني في اليمن، ونشرها أخباراً توثق دخولها العسكري الرسمي في سورية، فقد مالت كفة التوازنات لصالحها، والنقطة القادمة المرشحة للتمدد الإيراني هي شرق السعودية، إما عن طريق البحرين أو السعودية نفسها. لهذا لم يكن هناك أمام السعودية من سبيل سوى تشكيل محور سني قوي يضم الدول الثلاثة الأكبر في المنطقة وهي مصر والسعودية وتركيا. وخطوات السعودية في الحكم الجديد تؤشر على سعيها لبناء هذا الحلف. فجاءت إشارات التقارب التركي السعودي بعد قطيعة دامت منذ انقلاب السيسي.
لكن لابد من الاعتراف بأن أردوغان طراز سياسي غير مألوف، فهو صريح، وحتى في كثير من الأمور يبدو بعيداً عن الدبلوماسية. فأعلن قبل الزيارة بأيام، ورداً على سؤال أحد الصحفيين حول لقائه المحتمل بالسيسي في السعودية، بشكل لا يدع مجالاً للّبس: "لن يكون هناك لقاء"... في الحقيقة أن جوابه لم يتوقف هنا، فأضاف: "نحن لا نتدخل بالشؤون الداخلية لمصر. لدينا مطالب ديمقراطية. يجب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم مرسي المظلوم. وفي الوقت نفسه يجب أن يعطى هؤلاء حق العمل السياسي. هذا ضروري من أجل استقرار مصر. وهذا ما ننتظره.". وفي إشارة صريحة أيضاً على فشل الانقلابيين بإدارة الدولة قال: "وعلى الرغم من تلقي مصر دعماً مالياً ضخماً لم تستطع أن تخرج من أزمتها..."
لم تؤثر هذه الكلمات الواضحة والتي يمكن اعتبارها بعيدة عن اللياقة الدبلوماسية على بورصة التكهنات، وأطلق الصحفيون العنان لخيالاتهم، فمنهم من تحدث عن طبخة طبخت، وسكبت بالأطباق، ولم يبق سوى الجلوس إلى المائدة لتناولها، وأن هذا الكلام لذر الرماد في العيون... ولكن أردوغان وفي المطار قبل طيرانه إلى جدة أطلق بأسلوبه المعهود شرطه على نظام السيسي من أجل البدء بتطبيع العلاقات بين البلدين: "يجب أن يخطو خطوات جدية إيجابية". وبالطبع الخطوات الإيجابية هي ما قاله، وما يكرره إطلاق: سراح المعتقلين السياسيين، وعودتهم إلى الحياة السياسية.
في التسريبات الصحفية ينقل الصحفي في جريدة "الصباح" المقربة من الحكومة التركية برهان الدين ضوران بأن السعودية أبلغت القيادة المصرية بأن تجري ما أسمته "مصالحة وطنية"، وأن تدرس الشرط التركي وتجد حلاً وسطاً من أجل تحقيق التقارب بين تركيا ومصر!
على الرغم من ارتفاع أسهم بورصة التكهنات، فإن أحداً لا يتوقع عودة الأمور إلى مجاريها بين نظامي أنقرة والقاهرة، ولكن حزب العدالة والتنمية التركي سجّل نقاطاً كثيرة في مرمى خصومه السياسيين في تركيا وعلى رأسهم حزب الشعب الجمهوري إذا حرمهم من إحدى القوتين الداعمتين لهم السعودية وإيران. فالأوضاع في تركيا تبدو مستقرة إلى الآن، واستطلاعات الرأي تشير إلى فوز مريح لحزب العدالة والتنمية، كما أنه ليس هناك حزب منافس بشكل جدي يمكن أن يتسلم زمام أمور البلد. ولكن الأمور ليست كذلك على الجبهة المصرية.
على محور العلاقات بين الدول الثلاثة، لن يقف السيسي مكتوف الأيدي إزاء التقارب السعودي التركي، وهو يقرأ طموحات السعودية وحاجتها لهذا الحلف السني، ولذلك فهو يمكن أن يبتز السعودية والخليج بدخوله تحت الهيمنة الإيرانية. السعودية تحسب هذا الحساب، وتدرك أن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لتصل إلى ما قبل الانقلاب مستحيلة. ولكنها عازمة على تقوية العلاقات إلى أبعد الحدود مع تركيا، وستبقى حالياً في مرحلة النصح للسيسي لكي لا تدفعه إلى حضن طهران.
من المعروف أن الجماهير في البلدان العربية لا تخرج لاستقبال زعيم سياسي ضيف إذا لم يكن هناك توجيه عُلوي، وتقدّم الجهات العليا بطريقة الاستقبال والحفاوة الشعبية هذه رسالة متعددة، وباتجاهات مختلفة. فقد استُقبل الرئيس التركي في المدينة المنورة استقبالاً شعبياً... ووصفت وكالات الأنباء كلها –باستثناء السيسية الإيرانية- الاستقبال الشعبي بأنه "حاشد"... الطريف أن الإعلام السيسي-الإيراني قارن بين استقبال أردوغان في جدة وبين استقبال السيسي في الرياض، ولم يقارن باستقبال الاثنين في الرياض! ويبدو هذه إبرة مسكن لمنتظري التبويس.
لا أحد يتوقع أن يلبي السيسي الشروط الأردوغانية، وبالطبع فإن إخراج المعتقلين السياسيين من السجون المصرية وعلى رأسهم مرسي، ومنحهم حق العمل السياسي هو نهاية الانقلاب العسكري في مصر. وإذا كان الجميع ينتظر على المدى المتوسط حلفاً تركياً سعودياً مصرياً، فهذا مستبعد بوجود عبد الفتاح السيسي. لأن الضلعان السعودي والتركي بدأ بالتشكل، والخشية من دخول السيسي في المحور الإيراني تدفع السعودية إلى مداراة السيسي حالياً... ولكن هل سترضخ السعودية طويلاً للابتزاز؟ هذا ما ستكشفه الأيام، وهذه الأيام لن تكون طويلة جداً...
تُرى بماذا يفكر الذين كانوا ينتظرون تبويس الجزمة، ثم تنازلوا لتبويس الشوارب؟ لابد أن القضية أصبحت صعبة جداً، ويا ليت تُحل بالتبويس
__________________________
*باحث سوري متخصص في الشؤون التركية
زيارة السيسي وأردوغان للسعودية ذكرتني بهذه القصة بعد قرابة عام. قبل الزيارة بأيام ارتفعت بورصة التوقعات السياسية، وضربت رقماً قياسياً غير مسبوق، وتم الحديث عن تبويس الشوارب بين السيسي وأردوغان وليس الجزم. يبدو أن سيادة رُبّان الانقلاب تنازل وتواضع في هذه القضية، لأن الرياح لم تجر كما اشتهى ربان الانقلاب... هل هو ربان الانقلاب فعلاً؟
هذا أمر آخر يحتاج إلى مناقشة. الرياح التي هبت بما لم يشتهه الربان هو التمدد الإيراني في اليمن، ونشرها أخباراً توثق دخولها العسكري الرسمي في سورية، فقد مالت كفة التوازنات لصالحها، والنقطة القادمة المرشحة للتمدد الإيراني هي شرق السعودية، إما عن طريق البحرين أو السعودية نفسها. لهذا لم يكن هناك أمام السعودية من سبيل سوى تشكيل محور سني قوي يضم الدول الثلاثة الأكبر في المنطقة وهي مصر والسعودية وتركيا. وخطوات السعودية في الحكم الجديد تؤشر على سعيها لبناء هذا الحلف. فجاءت إشارات التقارب التركي السعودي بعد قطيعة دامت منذ انقلاب السيسي.
لكن لابد من الاعتراف بأن أردوغان طراز سياسي غير مألوف، فهو صريح، وحتى في كثير من الأمور يبدو بعيداً عن الدبلوماسية. فأعلن قبل الزيارة بأيام، ورداً على سؤال أحد الصحفيين حول لقائه المحتمل بالسيسي في السعودية، بشكل لا يدع مجالاً للّبس: "لن يكون هناك لقاء"... في الحقيقة أن جوابه لم يتوقف هنا، فأضاف: "نحن لا نتدخل بالشؤون الداخلية لمصر. لدينا مطالب ديمقراطية. يجب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم مرسي المظلوم. وفي الوقت نفسه يجب أن يعطى هؤلاء حق العمل السياسي. هذا ضروري من أجل استقرار مصر. وهذا ما ننتظره.". وفي إشارة صريحة أيضاً على فشل الانقلابيين بإدارة الدولة قال: "وعلى الرغم من تلقي مصر دعماً مالياً ضخماً لم تستطع أن تخرج من أزمتها..."
لم تؤثر هذه الكلمات الواضحة والتي يمكن اعتبارها بعيدة عن اللياقة الدبلوماسية على بورصة التكهنات، وأطلق الصحفيون العنان لخيالاتهم، فمنهم من تحدث عن طبخة طبخت، وسكبت بالأطباق، ولم يبق سوى الجلوس إلى المائدة لتناولها، وأن هذا الكلام لذر الرماد في العيون... ولكن أردوغان وفي المطار قبل طيرانه إلى جدة أطلق بأسلوبه المعهود شرطه على نظام السيسي من أجل البدء بتطبيع العلاقات بين البلدين: "يجب أن يخطو خطوات جدية إيجابية". وبالطبع الخطوات الإيجابية هي ما قاله، وما يكرره إطلاق: سراح المعتقلين السياسيين، وعودتهم إلى الحياة السياسية.
في التسريبات الصحفية ينقل الصحفي في جريدة "الصباح" المقربة من الحكومة التركية برهان الدين ضوران بأن السعودية أبلغت القيادة المصرية بأن تجري ما أسمته "مصالحة وطنية"، وأن تدرس الشرط التركي وتجد حلاً وسطاً من أجل تحقيق التقارب بين تركيا ومصر!
على الرغم من ارتفاع أسهم بورصة التكهنات، فإن أحداً لا يتوقع عودة الأمور إلى مجاريها بين نظامي أنقرة والقاهرة، ولكن حزب العدالة والتنمية التركي سجّل نقاطاً كثيرة في مرمى خصومه السياسيين في تركيا وعلى رأسهم حزب الشعب الجمهوري إذا حرمهم من إحدى القوتين الداعمتين لهم السعودية وإيران. فالأوضاع في تركيا تبدو مستقرة إلى الآن، واستطلاعات الرأي تشير إلى فوز مريح لحزب العدالة والتنمية، كما أنه ليس هناك حزب منافس بشكل جدي يمكن أن يتسلم زمام أمور البلد. ولكن الأمور ليست كذلك على الجبهة المصرية.
على محور العلاقات بين الدول الثلاثة، لن يقف السيسي مكتوف الأيدي إزاء التقارب السعودي التركي، وهو يقرأ طموحات السعودية وحاجتها لهذا الحلف السني، ولذلك فهو يمكن أن يبتز السعودية والخليج بدخوله تحت الهيمنة الإيرانية. السعودية تحسب هذا الحساب، وتدرك أن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لتصل إلى ما قبل الانقلاب مستحيلة. ولكنها عازمة على تقوية العلاقات إلى أبعد الحدود مع تركيا، وستبقى حالياً في مرحلة النصح للسيسي لكي لا تدفعه إلى حضن طهران.
من المعروف أن الجماهير في البلدان العربية لا تخرج لاستقبال زعيم سياسي ضيف إذا لم يكن هناك توجيه عُلوي، وتقدّم الجهات العليا بطريقة الاستقبال والحفاوة الشعبية هذه رسالة متعددة، وباتجاهات مختلفة. فقد استُقبل الرئيس التركي في المدينة المنورة استقبالاً شعبياً... ووصفت وكالات الأنباء كلها –باستثناء السيسية الإيرانية- الاستقبال الشعبي بأنه "حاشد"... الطريف أن الإعلام السيسي-الإيراني قارن بين استقبال أردوغان في جدة وبين استقبال السيسي في الرياض، ولم يقارن باستقبال الاثنين في الرياض! ويبدو هذه إبرة مسكن لمنتظري التبويس.
لا أحد يتوقع أن يلبي السيسي الشروط الأردوغانية، وبالطبع فإن إخراج المعتقلين السياسيين من السجون المصرية وعلى رأسهم مرسي، ومنحهم حق العمل السياسي هو نهاية الانقلاب العسكري في مصر. وإذا كان الجميع ينتظر على المدى المتوسط حلفاً تركياً سعودياً مصرياً، فهذا مستبعد بوجود عبد الفتاح السيسي. لأن الضلعان السعودي والتركي بدأ بالتشكل، والخشية من دخول السيسي في المحور الإيراني تدفع السعودية إلى مداراة السيسي حالياً... ولكن هل سترضخ السعودية طويلاً للابتزاز؟ هذا ما ستكشفه الأيام، وهذه الأيام لن تكون طويلة جداً...
تُرى بماذا يفكر الذين كانوا ينتظرون تبويس الجزمة، ثم تنازلوا لتبويس الشوارب؟ لابد أن القضية أصبحت صعبة جداً، ويا ليت تُحل بالتبويس
__________________________
*باحث سوري متخصص في الشؤون التركية